الجزء الثاني
عن الإيمان
“أن دائرة الإيمان تبدأ حيث تنتهي الممكنات وحيث يفشل العيان والحس “
الإيمان لا يتمم عمله في دائرة الممكن، فلا مجد لله في إتمام ما يمكن إتمامه بشريا. إنما الإيمان يبدأ حيث تنتهي قوة الإنسان لهذا يؤسس الإيمان الحقيقي دائما على وعد من مواعيد الله أو على فقرة من الكتاب المقدس.
هذا أمر على جانب كبير من الأهمية، فالمؤمن يقرأ أو يسمع وعدا ما من الله، فيأخذ الروح القدس ذلك الوعد ويطبقه في قلبه وضميره، فيدرك المؤمن أن الله قد كلمه مباشرة. وبثقة تامة يحسب المؤمن أن الوعد مؤكد ومضمون كما لو كان قد تم فعلا، ولو أنه يبدو مستحيلا من وجهة النظر الطبيعية
ولعلّ المؤمن يتأثر بوصية وليس بوعد ولا فرق بين الحالتين. فأن كان الله يأمر، فهو يمكّننا من إتمام الأمر. فإذا أمر بطرس أن يمشي على الماء فلبطرس أن يتأكد من نوال القوة التي يحتاج إليها لذلك (متى14: 18). وهكذا هي حالنا فإذا أمرنا أن نكرز بالإنجيل للخليقة كلها فلنا أن نتأكد من نوال النعمة التي نحتاج إليها لذلك
أليس من الصواب أن يثق المخلوق في خالقه؟
هل من الجنون أن نؤمن بمن لا يمكن أن يكذب أو يتخلى أو يخدع؟
الثقة في الله هي الأمر المعقول، المنطقي، المقبول الذي يمكن أن يفعله الإنسان. فهو ليس قفزة في الظلام بل أنه يتطلب أقوى تأكيد، فيجد هذا التأكيد في كلمة الله التي لا تسقط. وما أحد وضع ثقته في الله وخاب قط، ولن يخيب أحد يفعل ذلك فالإيمان بالله لا تحدق به آية مخاطرات على الإطلاق
الإيمان يمجد الله، ويضعه في مكانه الصحيح، لأنه أهل للثقة التامة دون سواه أما عدم الإيمان فيهين الله، إذ يتهمه بالكذب (1يوحنا5 : 10 ) ويحد الإله القدوس(مزمور78: 41) والإيمان يضع الإنسان أيضا في مكانه الصحيح كمعتمد على الله متضع أمامه، ينحني فوق التراب أمام الرب سيد الجميع، الإيمان عكس العيان. يذكّرنا بولس الرسول بقوله “لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان” (كورنثوس 5: 7 ). والسلوك بالعيان معناه الاعتماد على وسائل منظورة والاستعانة بها، وتدبير احتياطات للمستقبل، واستخدام المهارة البشرية في عمل الضمانات ضد الأخطار غير المنظورة. أما السلوك بالإيمان فهو عكس ذلك. هو الاعتماد على الله وحده في كل لحظة. هو اتكال مستمر على الرب. فالجسد ينفر من موقف الاتكال الكامل على إله غير منظور، ويحاول أن يجد له وسادة يستند إلها ضد الخسائر المحتملة، وفي عدم استقراره يتعرض الانهيارات العصبية، لكن الإيمان يقفز بخطى ثابتة إلى الأمام أطاعه لكلمة الله، واثقا أن الرب يهتم بكل الاحتياجات
للإيمان مفهومان أساسيان
المفهوم الأول
التوبة و الإيمان بتعاليم الإنجيل والكتاب المقدس ، “توبوا وآمنوا بالإنجيل” ( مرقس 15:1). و يسمى الرب يسوع بـ”رئيس الإيمان ومكمله” ( العبرانين 2:12) . أي “رأس الإيمان ومتممة” إذ هو الأساس الذي قام عليه كل بنيان الإيمان المسيحي وحقائقه
جاء قول سفر أعمال الرسل أن الله “فتح للأمم باب الإيمان” ( أعمال الرسل 27:14 ). فالإيمان هنا هو الإيمان المسيحي . وحقائقه : الإيمان بالله و بوحدانيته، والاعتقاد في المسيح وربوبيته و ألوهيته ، وأنه الفادي ومخلص العالم ( يوحنا 36:12 ) ، وسائر التعاليم التي علم بها المسيح كما جاء في الإنجيل ، الذي کرز به الرسل وتسلمتها عنهم الكنيسة المسيحية . وأما المقصود بالأمم فهو الشعوب الأخرى من غير اليهود ، ممن آمنو بالمسيح
وبهذا المعنى جاء في سفر الأعمال أيضاً عن رجل ساحر يهودي عارض القديسين بولس وبرنابا في كرازتهما ودعوتهما، وحاول أن يعطل حاکم جزيرة قبرص عن الإيمان بالمسيح “لكن عليما الساحر … قاومهما وحاول أن يصرف الوالي عن الإيمان” ( أعمال 8:13 )
كذلك قال الرسول بولس عن نفسه “جاهدت الجهاد الحسن …وحافظت على الإيمان” ( 2. تيموثيئوس 4 : 7 )
كذلك معنى الإيمان لمن يقال عنهم أنهم يرتدون عن الإيمان ، ( ۱. تیموثيئوس 1:4 ) أو أنكر الإيمان ( ۱. تیموثيئوس 8:5 ) أو اضلوا عن الإيمان ( ۱. تيموثيئوس 6 : 10)
المفهوم الثاني
الإيمان و التصديق القلبي والنفسي والشعوري والروحي والباطني ، بالله وبالحياة الآخرة
التصديق القلبي والروحي بالعقائد واليقين في حقيقتها، وعدم الشك في صدقها فمن قال أنه يؤمن بالله (مرقس 22:11 ) ، وبالحياة الأخرى ، فقد برهن بقوله هذا على أنه يعتقد بوجود الله وبالحياة الأخرى اعتقادا جازماً. ولا يشك في حقيقة الله ووجوده، من ذلك قول القديس بولس الرسول” لأنني عالم بمن آمنت وواثق بأنه قدير على أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم” ( 2. تيموثيئوس 12:1)، فهنا الإيمان هو التصديق القلبي بالله (يوحنا 1:14 ) . والاعتماد عليه بيقين وثقة واطمئنان، والاعتقاد الراسخ في رحمته وعدله وصدق وعوده
ومن هنا جاء تعريف الإيمان في الكتاب المقدس بأنه “الثقة بما يرجي والإيقان بأمور لا ترى” (عب 1:11 ) . فالإيمان تصديق ويقين نفسي بحقائق لا يدركها الإنسان بالحواس. ومن هنا فالإيمان هو غير العيان. ( 2. كورنثوس 7:5 ) فنحن نؤمن بالله وإن كنا لا نراه . ونؤمن بالروح وإن كنا لا نلمسها، ونؤمن بالحياة الأخرى وإن كنا لا نشاهدها بحواسنا الظاهرة
أنواع الإيمان
والإيمان أنواع ومستويات: فهناك الإيمان البسيط، والإيمان المتعقل، والإيمان الذي بلا فحص، والإيمان الخلاق أو التوليدي
الإيمان البسيط
وهو الإيمان السطحي، ويُبني على التصديق السريع ، وصاحب هذا الإيمان لا يقوى على أن يصمد أمام الشكوك التي يثيرها أعداء الإيمان ، فسريعاً ما يعلن مثل هذا الإنسان عن إيمانه ، وسريعاً ما ينهار إيمانه أمام صعوبة لأنه لا عمق له … ومثل هذا الإيمان نلحظه في العوام والجهال من الناس ، يُبني فيهم على مقولة جميلة أو قصة مؤثرة أو موقف قوى من بعض القيادات الروحية أو الدينية يذهلون له أو يبهرون به ، فيسرعون إلى الإذعان بما يقال لهم من ذلك القائد أو الزعيم ، وهم في فورة الانفعال بالموقف ، فإذا بردت تلك الفورة العاطفية أو هدأت ، واصطدم ذلك المؤمن بموقف صعب وتجربة أليمة لا يقوي إيمانه على الصمود أمامها إنهار إيمانه . وقد يتحول تحت شدة الصدمة إلى جحود، وربما إلى انفعال مضاد، فيلعن الإيمان الأول ويتنكر له
يقول المسيح “مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” (لوقا 8:18) وأمثال المتلبسين بهذا النوع من الإيمان كثيرون ممن نراهم في كل يوم، ممن يصيحون بالإيمان ويتشدقون بالشعارات، ولا يلبثون طويلاً حتى تسمع منهم هم بذواتهم صيحات الاستنكار، والتجديف، حتى ليكاد من يسمعهم أن يشك في عينيه أو أذنيه، ويتولاه الذهول والعجب مما يبدو أمامه محالاً لا يقبله العقل ولا يسيغه الحّس. ولعل هذا النوع من الإيمان يجد تفسيره فيما أورده المسيح له المجد في مثل الزارع ، عن بعض البذور مما سقط على جانب الطريق فجاءت طيور السماء وأكلته ، أو بعض البذور مما سقط على البقاع الصخرية حيث لا تتوافر له التربة لانعدام الرطوبة ، فسرعان ما نبت ، إذ لم يكن له عمق في الأرض ، حتى إذا أشرقت الشمس أحترق ، وإذ لم يكن له جذور جف … وقد قال الرب يسوع المسيح عن هذا الفريق من الناس أنهم يسمعون كلمة الملكوت ولا يفهمونها ، فيأتي الشيطان على الفور فيقتلع ما قد زرع في قلوبهم ، لئلا يؤمنوا فيخلصوا أو هم الذين يسمعون الكلمة وسرعان ما يقبلونها ، ولكنهم إذ لا جذور متأصلة في ذواتهم لا يثبتون إلا إلى حين ، ثم إذا وقعت ضائقة أو اضطهاد بسبب الكلمة فسرعان ما يتزعزعون ويضعفون
( متی 3:13-21 ) ( مرقس 4 : 3-17 ) ، ( لوقا 8 : 5-13 )
الإيمان المتعقل
وأما النوع الثاني من الإيمان ، فهو الإيمان المتعقل ، وهو أرقى وأعلى درجة من الإيمان البسيط ، لأنه يجئ بعد الشك وبالتالي بعد الدرس والفحص والامتحان ، فيكون إيماناً قائماً على أساس ثابت راسخ ، وقادراً على مواجهة الشكوك ، لأنه جاء بعد مرحلة من الشك ، وبالتالي فهو قائم على الاقتناع العقلي والقلبي بأدلة يرضى عنها العقل ، ويستند إليها الإيمان … هذا الإيمان هو إيمان المفكرين والعلماء والفلاسفة ، وهو إيمان قوي ، لا يتزعزع ، وقد قال فيه القديس أوغسطينوس مقولته المشهورة “العقل يسبق الإيمان والإيمان يسبق العقل . وإني أؤمن لكي أتعقل وأفهم”. والمعنى أن الفيلسوف والمفكر يستخدم عقله قبل أن يسلمه العقل إلى الإيمان. فالإيمان يجي بعد النظر العقلي، وبذلك يكون إيماناً قوياً وراسخاً وقائماً على أدلة مقنعة للعقل والقلب. فهو يتأمل الكون بالعقل، وهذا التأمل العقلي يقوده إلى الإيمان بوجود خالق الكون، هو العلة الأولى للوجود … وبعد ذلك تأتي مرحلة ثانية بعد الإيمان، للعقل أيضاً فيها عمل. ذلك أن الإيمان أو الدين يقدم للإنسان مسلمات دينية جاء بها الوحي ولم يأت بها العقل. ومع ذلك فالعقل يتلقفها من يد الإيمان محاولاً أن يتفهمها ويسيغها ويبرهن عليها، بأدلة عقلية … وبهذا تتحول الحقائق الإيمانية بعد أن يهضمها العقل إلى حقائق إنسانية مقبولة للعقل، ويمكن للعقل أن يدافع عنها، ويبرهن على صدقها وصحتها، وأنها لا تتعارض مع قوانین الفكر الضرورية وإن كانت مصادرها الأصلية سماوية وإلهية … وأخيرا كما يقول القديس أوغسطينوس “وإني أؤمن لكي أتعقل وأفهم” والمعنى من ذلك أن الإيمان وإن جاء بعد التعقل. لكنه ضروري للإنسان من أجل أن يفهم ما لا يستطيع أن يتوصل إليه من غير الإيمان. فالعقل الإنساني قاصر ومحدود ، وقد يتوصل إلى الإيمان بالله بتأمله في الكون ونظامه وقوانينه ، فيهتدي إلى أنه لابد من وجود خالق للكون عاقل وبصير ، كلى العلم وكلى القدرة ، وكلى الحكمة ، أزلي أبدي حاضر في كل مكان … وهنا يتوقف العقل عن أن يعرف عن طبيعة الله ، وحين يتوقف العقل يبدأ الإيمان عمله ، آخذا بيد العقل إلى ما بعد المشارف إلى شيء من المعرفة عن طبيعة الله فيكلمنا عن صفات الله ، وخاصياته الثلاث (وهو ما يعرف بالأقاليم الإلهية ) ، ويحدثنا عن الفداء والخلاص ومصير الروح بعد الموت والقيامة العامة وغيرها ، من الحقائق الدينية التي لا يستطيع العقل أن يتوصل إليها من تلقاء ذاته ما لم يتلقنها من الإيمان أو النقل. أي من الوحي والكتب المقدسة. على أن للعقل بعد ذلك عملاً آخر هو شرح ما يقدمه الإيمان وتفسيره وتقريبه إلى مستوى إدراك الإنساني بالأمثلة الموضحة والبراهين العقلية، مما يفيد في فهم ما كان عالياً على الإدراك الإنسان، فتصير بذلك الحقائق الدينية مفهومة ومساغه للعقل ومقبولة، بل تصبح مؤيدة ومسنودة بالأدلة والمقارنات، واضحة جلية للفكر ليس فيها ما يتعارض مع قوانين الفكر أو يتناقض مع النظر العقلي
وبهذا يبدو واضحا أن ما يقدمه الإيمان قد أساغه العقل وبرره، وصار على امتداد خط واحد في طريق الفهم الكامل، بمعنى أن ما يقدمه العقل قبل مرحلة الإيمان، وما يقدمه الإيمان في المرحلة الثانية، يتقدم بالإنسان في خط واحد ممتد إلى الأمام في خدمة الإنسان لإكتمال فهمه للوجود
هذه الحركة العقلية الإيمانية تشبه ما يحدث للتلميذ الذي يتقدم إلى المعرفة. فهو يبدأ بنوع من المعرفة التلقائية الطبيعية لما حوله، مما تقدمه له الحواس وما يمكن أن يستنبطه بعقله. ولكنه بالنسبة لبعض الحقائق يعجز عن التوصل إليها إلا من خلال المدرسة والمعلمين. وما يتلقاه من المدرسة والمعلمين يعمل فيه عقله ليسيغه ويفهمه ويهضمه ويستوعبه، حتی يستحيل إلى حصيلة عرفانية تزوده بإضافة جديدة إلى معرفته الأولية. على أن المعرفة الأولية مضافاً إليها المعارف التي يتلقاها من المعلمين، هذه وتلك جميعاً تتفاعل معاً وتندمج معاً وتتحول إلى جماع من المعرفة، يستعين بهما معاً على زيادة الفهم والمعرفة. فالمعرفتان الأولى والثانية تتضامنان معاً في خط واحد لبلوغ درجة عالية في المعرفة. هكذا العقل والإيمان، أو العقل والنقل، يتعاونان ولا يتعارضان، يتزاملان ويتفاعلان، ولا يتعارضان ولا يتناقضان، وهما معاً في خدمة الإنسان لزيادة المعرفة والفهم والإدراك، وتنوير البصر والبصيرة.
الإيمان الذي بلا فحص
وأما الإيمان الذي بلا فحص، فهو مرتبة أعلى من الإيمان، أسمي من الإيمان المتعقل، وبالتالي من الإيمان البسيط.. فيه يبلغ المؤمن إلى ثقة بالله ويقين بوجوده وبحكمته وصدق وعوده وقدرته، بحيث لا يعود يفتش عن دليل أو برهان، ولا يحتاج إلى من وما يقنعه ويرسخ إيمانه في الله
لقد كان قبل ذلك في حاجة إلى دليل ولعله مر بمرحلة الشك فترة ما، ثم تبدل شکه بيقين، وصار إيمانه قوياً و مسنوداً بأدلة وبراهين. ولكنه بعد أن بلغ هذا اليقين لا يفتش عن دليل جديد، فإذا صدر إليه أمر من الله صدع له مؤمنا في يقين أن الخير فيما أمر الله به، ولسان حاله دائما وشعاره “المر الذي تختاره أنت لي يا الله خير من الحلو الذي أختاره أنا لنفسي”
وليس معنى “الإيمان بغير فحص”، أنه إيمان أعمى، أو انقياد بغير بصيرة أو وعي- ولكنه مرتبة من الإيمان تأتي بعد طول اختبار، وبعد مرات من الشك والفحص تنتهي بالاقتناع والتسليم؛ نعلم أن الله يسخر كل شيء لخير الذين يحبونه . (رومية 8 : 28).
وكمثال على هذا الإيمان الذي بلا فحص، إيمان إبراهيم الذي كان يعيش في وسط عشيرته فيما بين النهرين. فتلقى أمراً من الله “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة” (تك 1:12 ، 2 ) ، ( أعمال الرسل 2:7 ، 3) ، فما كان من إبراهيم إلا أنه أطاع أمر الله ولم يجادل فيه . ومما هو أوضح في الدلالة على التسليم المطلق والإذعان التام بغیر تحفظ للأمر الإلهي الصادر إليه قول الكتاب المقدس، “بالإيمان إبراهيم لما دعي أطاع أن يخرج إلى المكان …. فخرج وهو لا يعرف إلى أين يتوجه” (عب 8:11)
الإيمان الخلاق أو التوليدی
أما الإيمان الخلاق أو التوليدي فهو أرقى أنواع الإيمان جميعاً، وهو امتداد للإيمان المتعقل. فالإيمان الذي بلا فحص، وهو تسليم مطلق لإرادة الله مع اسقاط تام لإرادة الإنسان بعد مسيرة طويلة في حياة الشركة المقدسة مع الله، واختيار حكمته تعالى التي تعلو بما لا قياس على حكمة الإنسان وفهمه للتدبيرايات الإلهية
وكمثال على هذا النوع الممتاز من الإيمان الخلاق إيمان إبراهيم الذي أمره الرب قائلا: “خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق وأذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أريك” ( التكوين 2،1:22) . وعلى الرغم من أن الله سبق فوعد إبراهيم ولم يكن له آنئذ ولد قائلاً: “بل سارة امرأتك ستلد لك إبنا وتدعو اسمه اسحق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده”( التكوين 19:17 ) ، فإنه لم يتوان عن إطاعة الأمر الصادر إليه بأن يذبح هذا الابن الذي وعده الله به ووعده بأنه ، به تتبارك جميع قبائل الأرض (التكوين 3:12 ) ، ( 18:18 ) ، ( 18:22 ) ،. “فبكر إبراهيم صباحاً وشد على حماره وأخذ معه إثنين من غلمانه، واسحق ابنه، وشقق حطباً لمحرقة، وقام ومضى إلى الموضع الذي قال له الله .” ( التكوين 3:22) ثم ” بني إبراهيم هناك المذبح ونضدّ الحطب وأوثق اسحق ابنه ، وألقاه على المذبح فوق الحطب ، ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه” ( التكوين 9:22، 10 ) فكيف تم كل ذلك ، ولم يعترض إبراهيم ولم يجادل ، ولم يناقش وعد الله السابق إليه بأنه بإسحق يدعى له نسل ؟ والجواب على ذلك نجده فيما بعد، في رسالة بولس إلى العبرانيين:” بالإيمان قدم إبراهيم اسحق حين امتحن. ذاك الذي قد حصل على المواعد قرّب وحيده، وقد قيل له أنه بإسحق يُدعي لك نسل. واعتقد أن الله قادر أن يقيمه من بين الأموات” (العبرانيين (17:11-19). والمعنى من ذلك أن إبراهيم عندما قدم ابنه اسحق ذبيحة لم يكن عنده شك في أن الله سیبر بوعده في اسحق، وذلك لثقته التامة في صدق ما وعد الله به، فإذا كان اسحق سيحرق حياً فإن الله لابد أن يقيمه من بين الأموات، مادام قد وعده بأنه بإسحق يُدعى لإبراهيم نسل. ومع أن عقيدة القيامة من الموت لم تكن قد عُرفت بعد، ولا رأي إبراهيم أحداً من قبل قد قام من بين الأموات، إلا أن إيمانه المُطلق بأن الله وعد، وأنه لابد أن يبر بوعده هو الذي جعله يعتقد أن اسحق بعد أن يحترق بالنار سيقيمه الله من بين الأموات. وهكذا كان إيمان إبراهيم بالله عظيماً، حتى أنه ولد عنده الاعتقاد بالقيامة من الموت، وهو اعتقاد لم يكن معروفاً، لكنه تولد ونشأ من يقين الإيمان ( العبرانيين 22:10 ) بالله ، وطلاقة قدرته على كل شيء حتى لو كان يبدو للإنسان مستحيلاً أو محالاً
هذه الأنواع الثلاثة الأخيرة، الإيمان المتعقل، والإيمان الذي بلا فحص، والإيمان الخلاق والموّلد، يوصف أصحابها بأنهم: راسخون في الإيمان (1. بطرس 9:5) وثابتون في الإيمان، (كولوسي 2 : 5 ) ، ( ۱. تیموثيئوس 15:2 ) ، و أصحاء في الإيمان ( تيطس 13:1 ) وإيمانهم صادق