يتحدّث النّاس بشغفٍ عند قول: “أنا شيّدت بيتاً”، أو “إنني أعيش في بيت بنيته بتعبي “، والسؤال هل البيت هو البناء المكوّن من الحجارة والإسمنت والخشب والحديد والألمنيوم والبلاط والكهرباء والماء. أم أن البيت هم النّاس الذين يسكنون البناء؟
صحيح أن البناء مكلف ومتعب ويحتاج للمال وللجهد والعمل. ولكن بناء الأسرة أهم بكثير. وأن يعيش الرجل وزوجته وأولادهم بسلام وانسجام ومحبة أهم جدّاً من وجودهم في بناء واحد
بالعودة إلى كلمة الله في الكتاب المقدس، نجد أن كلمة البيت تشير مع معظم استخداماتها إلى الأشخاص والأفراد، أي إلى الأسرة أو مجموعة الناس الذين يعيشون معاً في بناء واحد. فالبيت هم الحجارة الحيّة وليس مجرد حجارة ميّتة. كذلك يذكّرنا الله في وحيه المقدّس أن بناء البيت يجب أن يتم بالاعتماد الكامل على الله، وأن أي جهد أو عمل أو بناء بدون الله فهو باطل ومصيره الانهيار
١- إنْ لَمْ يَبنِ الرَّبُّ البَيتَ، فباطِلًا يتعَبُ البَنّاؤونَ. إنْ لَمْ يَحفَظِ الرَّبُّ المدينةَ، فباطِلًا يَسهَرُ الحارِسُ. ٢باطِلٌ هو لكُمْ أنْ تُبَكِّروا إلَى القيامِ، مؤَخِّرينَ الجُلوسَ، آكِلينَ خُبزَ الأتعابِ. لكنهُ يُعطي حَبيبَهُ نَوْمًا. ٣هوذا البَنونَ ميراثٌ مِنْ عِندِ الرَّبِّ، ثَمَرَةُ البَطنِ أُجرَةٌ. ٤كسِهامٍ بيَدِ جَبّارٍ، هكذا أبناءُ الشَّبيبَةِ. ٥طوبَى للّذي مَلأَ جَعبَتَهُ مِنهُمْ. لا يَخزَوْنَ بل يُكلِّمونَ الأعداءَ في البابِ.
نتعلّم من كلمة الله في مزمور 127 بأن جهودنا البشرية باطلة بدون عمل الله معنا وقيادته لنا في كل ما نقوم به في حياتنا الأرضية. ويذكر المزمور أربعة نواحي في حياتنا بشكل محدد. ونجد في جميع هذه الحالات تشديداً واضحاً على ضرورة الاتكال على الله، وأنه بدون الله، تصبح الحياة فارغة وبلا رجاء
.١- الحياة الاجتماعية
. ٢- المواطنة أو السكن في مدينة جغرافية محددة
.٣- العمل
.٤- البيت والأسرة
آية 1: إن لم يبن الرَّبُّ البيتَ فباطلاً يتعب البناؤون
يبدأ المُرنم، وهو سليمان، الذي بنى أول بيت للرب في تاريخ البشرية، أي هيكل الله في أوروشليم، يبدأ في الحديث بوضوح بأنه إن لم يبن الله البيت، فإن هذا البيت يكون مبنياً على الرّمال، وسريعاً ما سينهار. لذلك يجب أن نطلب حضور الله في بيوتنا ليكون هو رب وسيد كل شيء في حياتنا كأسرة وكأفراد. علينا أن نطلب بركة الله لعائلاتنا، وإرشاد الله في قراراتنا، وقيادة الله لأعمالنا، وفكر الله في إيماننا وعبادتنا ومسيرتنا. فما أعظم أن نلمس بركة الله وحضوره في حياتنا، وفي أسرتنا
كيف يبنى الرب البيت؟ وكيف نعرف ذلك؟
أن نعمل وفق إرشاد كلمة الله، وأن يكون هدفنا أيضاً هو مجد الله. وباطلة هي جهودنا البشرية بدون الثقة والاتكال على الله. أي أن السؤال عن كيفية بناء الله لبيوتنا يعني ببساطة السؤال عن ثقتنا وإيماننا بوجود الله في حياتنا وجهودنا اليومية؟ فهل الله موجود في بيوتنا؟ أم أننا نحاول أن ننجز كل شيء بقوتنا وحكمتنا البشرية، دون الثقة بقوة وإرشاد وبركة الله؟!
يرمز بناء البيت إلى أمرين
. ١- تكوين الأسرة ونشأتها وترابطها
. ٢- بناء سكن أو مكان لتعيش فيه الأسرة
واضح من الآيات اللاحقة في المزمور، أن الحديث يدور عن تكوين الأسرة ونشأتها وعلاقة أعضاء الأسرة مع الله ومع بعضهم البعض، وهل يعيشون ببركة الله ورعايته وقيادته، أم يحاولون تدبير أنفسهم بشكل مستقل عن الله. كذلك نجد في مواقع كثيرة في الكتاب المقدّس آيات عن البيت باعتباره النّاس الأحياء وليس البناء الميّت، ومن الأمثلة على ذلك
في راعوث 11:4-12 يدور الحديث عن أسرة أو جماعة الله
في لوقا 9:19 نجد أن الموضوع هو خلاص للبيت، أي خلاص زكا وأفراد عائلته
في صموئيل الأول 35:2 نجد وعداً من الله ببناء بيتاً أميناً، أي أن الحديث يتعلق بأسرة تحب الله
في صموئيل الثاني 16:7 يعد الله الملك داود أن أن يكون بيته ومملكته في أمان
في متى 25:10 نقرأ أن الرّب يسوع المسيح هو رب البيت المسيحي الحقيقي
كيف ترى وضع بيتك؟ هل يعمل الله في بناء بيتك؟ أم تترك أفراد أسرتك أسرى في يد الخطية؟
آية 1: إن لم يحفظ الرَّبُّ المدينة فباطلاً يسهر الحارس
كانت المدن في الماضي محاطة بالأسوار، وما تزال أسوار أوروشليم خير دليل على ذلك، كذلك بقايا أسوار عكا، وأسوار بئر السبع القديمة، وغيرها من مدن بلادنا. وكذلك كان الحال قبل دخول الشعب القديم بقيادة يشوع، واستمر بناء الأسوار أيام مملكة إسرائيل ويهوذا، وأيام الرّب يسوع المسيح، وحتى عهود قريبة جداً
كانت الأسوار تُبنى حول المدن بقصد الحماية من هجمات الأعداء، ومن الحيوانات المفترسة. وعادة كان يتم وضع الحراس على أسوار المدينة للسهر على حماية البلد وتنبيه النّاس من أي خطر قادم
عندما تُهاجَم أيُّ مدينة، يدب الهلع في نفوس سكانها، ويصاب الجميع بالعصبية، ويعمل النّاس جاهدين للدفاع عن مدينتهم. لذلك يُذكّرنا الله هنا أنه بدون رعاية وحماية الله، فإن السهر من أجل الحماية من الأعداء سيكون باطلاً، وأن المحامي والسّاهر الحقيقي على شعبه هو الله. فإن لم يحفظ الله بيوتنا وأُسَرِنا وعائلاتنا ومدننا، فإن جهودنا البشرية باطلة. فالله هو الحارس والرّاعي والمدافع الأمين. نقرأ في مزمور 3:121-5 “لا ينعس حافظك… الرب حافظك… الرب “يحفظك من كل شرٍّ
آية2: “بَاطِلٌ هُوَ لَكُمْ أَنْ تُبَكِّرُوا إِلَى الْقِيَامِ مُؤَخِّرِينَ الْجُلُوسَ آكِلِينَ خُبْزَ الأَتْعَابِ. لَكِنَّهُ يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْماً”. باطلٌ هو لكم أن تبكّروا إلى القيام (من النوم) مؤخرين الجلوس (السهر في العمل) آكلين خبز الأتعاب. لكنه يعطي حبيبهُ نوماً
باطل للإنسان أن يبكّر الى القيام من النّوم، ويعمل ساعات العمل الطويلة، من قبل الفجر، وحتى ساعة متأخرة من الليل، وهدفه الوحيد هو تحصيل المال والأكل نتيجة تعبه. فالحياة ليست للعمل فقط، وليست قلق دائم لتحصيل لقمة العيش. فإن كان العمل وتحصيل المال هو الغاية، فهذا أمر باطل ولا يمجّد الله ولن يباركه الله. بل إن الشخص الذي يعيش لهذه الغاية، لن يجد الشبع، ولن يكتفي بأي مقدار من المال يدخله، ولن ينام مستريحاً، بل سيعيش تعباً في النهار ولن يشبع نوماً في الليل
بعكس الإنسان الذي يعمل بثقة مطلقة بأن الله معه، وأن عمله نعمة وعطية من الله، فهذا الإنسان يعمل متكلاً على الله في تسديد الحاجات، ولا يكون هدفه جمع المال، بل الحياة الكريمة والمشرّفة، ومثل هذا الإنسان ينام ليلة مستريحاً وبلا قلق. لذلك علينا أن نثق بالله في أعمالنا. ولا نجعل من العمل عبادة، بل الله هو غايتنا. من يعبد العمل فهو بعيد عن الله، لذلك علينا أن نعمل لنعيش بكرامة ونمجد الله حتى في عملنا، وذلك بثقتنا بالله. كذلك باطل ان فكّرنا أنّ خلاصنا بأعمالنا، بل هو عطية من الله لنا بدافع من محبته ونعمته الغنية
يصبح تعب الإنسان تحت الشمس باطلاً إن كان الله بعيداً عن حياته. فما أشقى الإنسان الذي يعيش للعمل والمال، ولا يعيش لله، فهو لن يهنأ حتى في نومه. صحيح أن الله يريدنا أن نبكّر الى القيام للصلاة، وليس لكي نقضي كل وقتنا في العمل وجمع المال. لذلك علينا أن نبدأ يومنا بالصلاة قبل التّوجه الى أعمالنا ووظائفنا ودراستنا. مزمور 1:63
الآيات 3-5: بركات الله على العائلة
“آية 3 “هوذا البنون ميراثٌ من عند الرَّبّ، ثمرةُ البطن أجرةٌ
كثيرة هي البركات على الأسرة المسيحية التي تخاف الله، فهو يعطي للأسرة المسيحية المباركة أولاداً وبناتاً. أي أن الأطفال ميراثٌ من عند الرَّبّ، فهم ليسوا ملكنا، بل ميراثٌ علينا رعايته والعناية به، لأننا سنتركه لاحقاً لرعاية الله ولرعاية غيرنا. أجلّ، إن بارك الله أسرة بالأولاد والبنات، فلنتذكر أنهم ميراث، أي عطية ورثناها من الله، عطية أعطانا إياها الله، وهو يتوقع منا الحفاظ على هذا الميراث وعدم ضياعه في دروب الشر والخطية والفساد. وبما أن البنون عطية من الله، فالمسيحي الحقيقي دائماً يعارض قتل الميراث بواسطة الإجهاض. فالإجهاض هو عملية قتل مدبّرة، أي جريمة في نظر الله، وتعدي على الله وإهدار لميراث الله المعطى لنا
“آية 4: “كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ هَكَذَا أَبْنَاءُ الشَّبِيبَةِ
يعطي الله الحماية والشعور بالأمان للعائلة المسيحية التي تتقي الله. ولدينا هنا تشبيهاً قوياً من الحياة: فكما أن السهام بيد الجندي والمقاتل تعطيه الإحساس بالقوة والحماية والقدرة على مواجهة العدو، كذلك فإن الأولاد في الأسرة يعطون الأهل إحساساً بالقوة والحماية والرعاية والقدرة على مواجهة مصاعب الحياة. إن قام الأهل بتوجيه الأبناء حقاً في طريق الرّب، فإن الله سيبارك الأب والأم بالتأكيد، وسيكون الأبناء مصدر تعزية وسعادة للأهل، وخصوصاً عندما يتقدّمان في السِّن ويدخلان مرحلة الشيخوخة.
“آية 5: “طُوبَى لِلَّذِي مَلَأَ جُعْبَتَهُ مِنْهُمْ
ما أجمل هذه الطوبى. فيا لهناء وغبطة وسعادة الأسرة المسيحية الكثيرة الأولاد، خاصة في هذا الزمن الذي أصبح إنجاب طفل في الأسرة المسيحية حدث استثنائي وفريد
الله يبارك ويطوّب الأسرة كثيرة الأولاد. فكما أن المحارب يشعر بالعزة والثقة عندما تكون جعبته مليئة بالسهام، كذلك يبارك الله الأب والأم عندما ينجبون عدداً كبيراً من الأولاد والبنات. فطوبى للبيت المليء بالأطفال، خصوصاً أطفال البيت المسيحي حيث تسهر الأم والأب على تعليم الأولاد عن محبة الله وحياة التقوى والقداسة
أمثلة من الكتاب المقدّس
١- تكوين 60:24: بارك إخوة رفقة أختهم وقالوا لها أنتِ أختنا. صيري ألُوف ربوات
٢- بارك الله يعقوب بأولاده الاثني عشر (12) الذين أصبحوا أسباط إسرائيل
“٣- إرميا 6:29 يأمرنا الله قائلاً: “تزوّجوا وتكاثروا”. ويضيف قائلاً: “أكثروا ولا تقلوا
“آية 5: “لاَ يَخْزُونَ بَلْ يُكَلِّمُونَ الأَعْدَاءَ فِي الْبَابِ
عندما يلد للرجل والمرأة أولاداً وبناتاً قبل وصولهم إلى سن الشيخوخة، فإن هؤلاء البنين يصبحون حماية للأهل من الوحدة والحرمان والنبذ من المجتمع. هكذا كانت الحال في العهود القديمة، وهي كذلك في غالبية المجتمعات المعاصرة إن لم يكن كل المجتمعات المعاصرة، حتى التي يوجد بها نظام تأمين اجتماعي. فمراكز رعاية المسنين لن تعوّض أبداً عن محبة الابن لأبيه أو ابنه لأمها العجوز
يشير “الباب” هنا إلى باب المدينة، ففي المدن القديمة، كانت تتم التجارة وعقد الصفقات وحتى الأحلاف وأعمال القضاء عند باب سور المدينة، وكان الرجل الذي لديه أولاداً كثيرين يقف بقوة وثقة زائدة بسبب العزوة التي لدية.
يستطيع الأب المتقدم في السن الاعتماد بثقة على بنيه في إنجاز أعماله دون خوف من أن يتم استغلاله، فهو بالتالي لا يتعرض للخزي، ويخاطب حتى أعدائه بقوة عند باب المدينة، أي في مركز العمل والحياة
طوبى لكل بيت شعاره (أنا وبيتي نعبد الرب) يوشع 15:24 لأن كل بيت مكرس للرب يختبر بركات ومعجزات عظيمة كما اختبرت مريم ومرثا معجزة أقامة أخيهما أليعازر من الموت. و لأنه وبالمسيح فقط، الضيق يتحول الى رجاء والمرض الى شفاء و الموت الى حياة
دعونا نصلي ونطلب من الرب أن يرحم بيوتنا وأسرنا، ويحمينا من الفساد الذي يلاحقنا والخطر الذي يهددنا بشكل قوي في هذا الزمان، دعونا نطلب من الرب أن يبارك بيوتنا في العام الجديد، دعونا نكرس بيوتنا للرب و أن نطلب من الرب أن يقودنا على حسب مشيئته لا على حسب اهوائنا… باسم يسوع المسيح نرفع صلاتنا آمين